المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفنّن في بيع أفكارك - الدكتور علي الحمّادي



عصام قاسم
04-18-2011, 12:16 PM
تفنّن في بيع أفكارك
الدكتور علي الحمّادي
الحلقة (1)
دروسٌ نبوية خالدة في نشر الفكر والدعوة
كم من الأفكار تبقى حبيسة النفس، سجينة الذات، لا ترى النور، ولا تجد لها ولا لصاحبها أثراً في هذه الحياة، والسر في ذلك هو عدم قدرة صاحب الفكرة على عرض فكرته بصورة مقنعة للآخرين، فيحرم صناعة التأثير بل وصناعة الحياة برمتها.

وإقناع الآخرين بالفكرة قد يتحقق عن طريق اللسان الفصيح المدجج بالحجة والمنطق والبرهان، وقد يتحقق بالسلوك الذكي، وقد يتحقق بالقدوة الحسنة. ولقد حاز النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك، حيث أُوتي جوامع الكلم، وكان خُلُقه القرآن، وكان أحسن الناس عِشْرة، وكان أرحم الناس وأعظمهم عفواً وجوداً وإحساناً، ولذا استطاع أن يكسب القلوب، ويقنع العقول، وينشر دين الله تعالى في الآفاق.

وصدق شوقي إذ يقول مادحاً رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يا مَنْ له الأخلاقُ ما تهوى العلا
منها وما يتعشَّقُ الكبراءُ
زانتك في الخُلُقِ العظيم شمائلٌ
يُغرى بهنّ ويولَعُ الكرماءُ
فإذا سَخَوتَ بلغتَ بالجود المدى
وفعلتَ ما لا تفعلُ الأنواءُ
وإذا خطبتَ فللمنابرِ هِزَّةٌ
تعرو النَّدِيَّ، وللقلوب بكاءُ
وإذا قضيتَ فلا ارتيابَ، كأنما
جاءَ الخصومَ من السماءِ قضاءُ
وإذا صَحِبتَ رأى الوفاءَ مجسماً
في بُرْدِك الأصحابُ والخلطاءُ
وإذا أخذتَ العهدَ، أو أعطَيتَه
فجميعُ عهدِكَ ذمَّةٌ ووفاءُ
وإذا مشيتَ إلى العدا فغَضَنْفرٌ
وإذا جريتَ فإنكَ النكباءُ
وتمدُّ حِلمكَ للسفيهِ مُدارياً
حتى يضيق بعرضكَ السفهاءُ
أما حديثُكَ في العقول فمَشْرعٌ
والعلم والحِكمُ الغوالي الماءُ
هو صِبغةُ الفرقان، نفخةُ قُدءسِه
والسين من سوراته والراءُ
جَرتِ الفصاحةُ من ينابيع النُّهى
من دَوحهِ، وتفجَّر الإنشاءُ
لما دعوتَ الناسَ لبَّى عاقلٌ
وأصمَّ منك الجاهلين نداءُ
أبَوُا الخُروجَ إليك من أوهامهم
والناسُ في أوهامهم سُجناءُ
ومن العقول جداولٌ وجَلامِدٌ
ومن النفوسِ حرائرٌ وإماءُ
يا أيها الأُمِّي حسبك رتية
في العلم أن دانتْ بك العلماءُ
المصلحون أصابع جُمعتْ يداً
هي أنتَ؛ بل أنت اليد البيضاءُ
صلى عليك الله ما صحب الدجى
حادٍ، وحنّتْ بالفلا وجْناءُ

بعظمته وبيانه يفتّح أبواب الأفكار
وبشجاعته وإيمانه يحرّر الأمصار..
انظر مثلاً إلى قدرات النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوة ربه وتسويق ما أمره الله به مع عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه ومن قبله أخته الصحابية الجليلة سفانة بنت حاتم الطائي رضي الله عنها التي أسلمت وحسن إسلامها بعد أن وقعت أسيرة في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما غزا طيئ.

قبل أن يأمر علي بن أبي طالب بقتال أهل طيء قال لهم: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم.

فقالت النساء لسفانة: إنهم يرثون النساء كما تورث الإبل، فقالت سفانة: كيف؟ قالت النساء: لأنها لا ترث شيئاً من أموال الأهل. قالت سفانة: هل يمضون بي سبياً؟ لو فعلوا ذلك لقتلت نفسي، فقالت لها إحدى النسوة: من يدخل الإسلام لا يؤخذ سبياً، ألم تسمعي ابن أبي طالب يقول: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم؟

وارتفع صوت علي بن أبي طالب: الأسر، الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع، وأصابت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة حاتم في سبايا علي، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجُعلت بباب المسجد، فمرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليَّ منَّ الله عليك.

فتساءل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن وافدك؟) قالت سفانة: عدي بن حاتم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفارُّ من الله ورسوله؟) ومضى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد مرَّ بها، فقالت له مثل ذلك، فردَّ عليها بمثل جواب الأمس، فلما كان اليوم الثالث، مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يئست منه فأومأ إليها رجل من خلفه: قومي فكلِّميه.

قامت سفانة فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي سيد قومه، كان يفك العاني، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يطلب إليه طالب قط حاجة فرده، أنا ابنة حاتم الطائي، فامنن عليّ منَّ الله عليك.

كريمٌ يملك بجوده قلوب الكرماء
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني) ثم قال لأصحابه: (خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق)

فسألت سفانة عن الرجل الذي كان يسير خلفه وأشار إليها أن كلميه فقيل لها: علي بن أبي طالب.

وأقامت سفانة حتى قدم رهط من قومها فيهم ثقة وبلاغ فقالت: يا رسول الله، قدم رهط من قومي فيهم ثقة وبلاغ، فمنّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرية وأعطاها عطاءً جزيلاً وكساها وأعطاها نفقة وحملها على بعير، فقالت سفانة: شكرتك يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة كريم إلا وجعلك سبباً لردها عليه.

وخرجت مع الرهط حتى قدمت الشام، وبينما عدي بن حاتم قاعد في أهله فنظر إلى ظعينة تصوب إلى قومه فقال: ابنة حاتم؟ قالت سفانة: وعورته؟! القاطع الظالم، فررت بأهلك وولدك وتركت بنية والدك.

فقال عدي: أي أخيّة، لا تقولي إلا خيراً، فوالله ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت، ثم عاد يتساءل: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم).

قالت سفانة: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تزل في عز اليُمْنِ وأنت أنت، فقال عدي: والله إن هذا للرأي.

قالت سفانة: لقد فعلت فعلة لو كان أبوك موجوداً لفعلها، ابتدر راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه، فقال عدي: إني لأرجو الله أن يجعل يدي في يده.

وانطلق عدي قاصداً مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغها، وجده في المسجد، فسلم عليه، فقال له: (من الرجل؟) فقال: عدي بن حاتم جئت من نفسي بلا أمانٍ أو كتاب، فأخذ بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى به إلى بيته، وفي الطريق لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته تكلمه طويلاً. فقال عدي: والله ما هذا بملك، فلما دخلا البيت، رمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوسادة من أَدَمٍ محشوة ليفاً وقال له: (اجلس عليها)، فقال عدي: لا بل أنتَ فاجلس عليها، قال: (لا بل أنت)، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض.

وعظيمٌ يأسر برفعته ألباب العظماء
فقال عدي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسياً) ؟ قال عدي: بلى، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟) فقال عدي: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك)، قال عدي: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يُجْهل.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم! فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله، ولعله إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت).

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي: (ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله؟) فقال عدي: لا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما تفر أن يقال: الله أكبر، وهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟) فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضالون) ، فقال عدي: إني حنيف مسلم.

فانبسط وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وكل به رجلاً من الأنصار فنزل عنده.

ولما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ارتدت القبائل عامة إلا قريش وثقيفاً، وظل عدي وأخته سفانة قابضين على دينهما، وخرج عدي مع خالد بن الوليد يحارب المرتدّين.

بل هو رسولٌ يؤدّي الرسالة
رحمةٌ وهداية لمن في الأرض وطاعةً لرب الأرض والسماء..
ويروي الإمام ابن كثير في (البداية والنهاية) رواية رواها عن أبي نعيم والحاكم والبيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أمر اللهُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب (قوم من ربيعة).. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وأن تؤووني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسول الله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد)

فقال له مفروق (رجلٌ من أشراف القوم وأحسنهم بياناً): وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} [الأنعام: 6/151]، إلى قوله: {ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 6/153].
فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 16/90].
فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.

البيان حين يقوده الإيمان..
جيش نصر في كل أزمة ووطن عزّ في كل غربة..
وكذلك يسطُرُ لنا الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مثلاً فذاً في كيفية توصيل الأفكار وعرضها، وذلك في الحوار الذي دار بينه وبين ملك الحبشة النجاشي مع وفد قريش حينما جاؤوا ليألبوه عليهم.

تقول أم سلمة رضي الله عنها: عزَّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة – قبل أن يسلما – وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته.

وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضروا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا ثم كلماه، فقالا له:
أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

وقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.

ولكن رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعاً، فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً ما كان.

للحديث بقية
منقول من مجلة عالم الإبداع

عصام قاسم
04-18-2011, 12:22 PM
تفنن في بيع أفكارك
الدكتور على الحماديالحلقة (2)

البيان حين يقوده الإيمان..
جيش نصر في كل أزمة ووطن عزّ في كل غربة..
يسطُرُ لنا الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مثلاً فذاً في كيفية توصيل الأفكار وعرضها، وذلك في الحوار الذي دار بينه وبين ملك الحبشة النجاشي مع وفد قريش حينما جاؤوا ليألبوه عليهم ويحشدوا حاشية الملك في صفّهم ويملؤوا صدره بغضاً للمسلمين المهاجرين بدينهم. ولكن بالرغم من ذاك الإعداد والتأليب رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية وسماع أطرافها جميعاً، فأرسل إلى المسلمين ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً ما كان.

المعتزّ بعقيدته غالب حيث كان
والمتمسّك بمبادئه سلطان!
فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا دين أحد من هذه الملل؟
قال جعفر بن أبي طالب -وكان هو المتكلم عن المسلمين-: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.

فكنّا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام (فعدّد عليه أمور الإسلام) فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.

فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} [مريم: 19/1] فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون -يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه- فخرجا.

وقال عمرو بن العاص لعبد الله بن ربيعة: والله لآتينهم غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصرّ عمرو على رأيه. فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسلَ إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائناً ما كان، فلما دخلوا عليه، وسألهم، قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عوداً من الأرض، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم والله.

ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شيوم (أي آمنون، بلسان الحبشة) بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبراً (أي جبلاً، بلسان الحبشة) من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم.

ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حتى ردّ علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه.
قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاؤوا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.

منفول بتصرف

عزيزي القارئ: في الجزء الثالث والأخير من هذه المقالة نتابع مع نموذجٍ تاريخي آخر من نماذج تقديم الفكرة إلى العقول وغرسها في الصدور وتحريك الجوارح لتطبيقها، ثم نختم بمجموعةٍ من الإرشادات الذهبية اللازمة لكلّ من يريد القيام بواجب نشر فكره وعقيدته وتحقيق قبولها في عقول الناس وإثمارها في واقعهم.

عصام قاسم
04-18-2011, 12:29 PM
تفنّن في بيع أفكارك
الدكتور على الحمادي
الحلقة (3)
خلاصة ذهبية لضمان قبولها وتطبيقها
كم من الأفكار تبقى حبيسة النفس، سجينة الذات، لا ترى النور، ولا تجد لها ولا لصاحبها أثراً في هذه الحياة، والسر في ذلك هو عدم قدرة صاحب الفكرة على عرض فكرته بصورة مقنعة للآخرين، فيحرم صناعة التأثير بل وصناعة الحياة برمتها.
وإقناع الآخرين بالفكرة قد يتحقق عن طريق اللسان الفصيح المدجج بالحجة والمنطق والبرهان، وقد يتحقق بالسلوك الذكي، وقد يتحقق بالقدوة الحسنة. ولقد حاز النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك، حيث أُوتي جوامع الكلم، وكان خُلُقه القرآن، وكان أحسن الناس عِشْرة، وكان أرحم الناس وأعظمهم عفواً وجوداً وإحساناً، ولذا استطاع أن يكسب القلوب، ويقنع العقول، وينشر دين الله تعالى في الآفاق.
توقّفنا في الجزأين الماضيين (في فبراير ومارس) من هذه المقالة عند نماذج نبوية رفيعة من التمسك بالعقيدة والحرص على إعلان الأفكار والمبادئ والتفنّن في نشرها وتطبيقها، وكذلك مع نماذج تاريخية ومعاصرة.
اضغط هنا للاطلاع على مقالة العدد فبراير (http://ebdaa.ws/mainart.jsp?ArtID=2155)
اضغط هنا للاطلاع على مقالة العدد مارس (http://ebdaa.ws/mainart.jsp?ArtID=2174)
في السطور التالية نستكمل الجزء الأخير من هذه المقالة فنتابع مع نموذجٍ تاريخي آخر من نماذج تقديم الفكرة إلى العقول وغرسها في الصدور وتحريك الجوارح لتطبيقها، ثم نختم بمجموعةٍ من الإرشادات الذهبية اللازمة لكلّ من يريد القيام بواجب نشر فكره وعقيدته وتحقيق قبولها في عقول الناس وتجسّدها في حياتهم.
خدعة كورش
كيف تقول مهمّ مثل أهميّة ماذا تقول أو أكثر!
هناك قصة مشهورة في التاريخ عند الفرس، وتسمى بـ (خدعة كورش) ، وكورش من مشاهير رجالات الحكم عندهم. فكَّر كورش بالوسيلة التي يستطيع فيها أن يقنع الفُرس بالثورة بأكثر الطرق فاعلية، فهدته تأمُّلاته إلى اعتماد الخطة التالية التي رأى أنها أفضل ما يلائم غرضه: كتب على صفحة من البرجمنت أن أستياجس قد عيَّنه ليقود الجيش الفارسي. ثم دعا إلى تجمع للفُرس، وفتح الصفحة بحضورهم، وقرأ عليهم ما كتبه فيها، ثم أضاف: (والآن، لديَّ أمر لكم، على كل شخص أن يظهر في الاستعراض ومعه منجل تشذيب..)
فأُطيع الأمر، وتجمَّع الرجال جميعاً ومعهم مناجلهم، فكان الأمر التالي لكورش هو أن عليهم قبل انقضاء سحابة النهار أن ينظفوا قطعة معيّنة من الأرض الوعرة والمليئة بشجيرات شائكة، مساحتها حوالي ثمانية عشر أو عشرين فرلنغاً مربعاً، فتمَّ له ذلك.
وعندئذ أصدر كورش أمراً آخر بأن يتجمَّعوا مرة أخرى في اليوم التالي بعد أن يستحمّوا. وفي تلك الأثناء جمع كورش كل ما كان لأبيه من ماعز وخراف وثيران، وذبحها استعداداً لإكرام الجيش الفارسي كله في وليمة، مع أفضل المشروبات وأنواع الخبز التي استطاع الحصول عليها.
وفي اليوم التالي تجمَّع الضيوف، فطلب منهم الجلوس على العشب وإمتاع أنفسهم بما لذَّ وطاب. وبعد الوجبة سألهم كورش إن كانوا يفضّلون عمل الأمس أم متعة اليوم، فأجابوا بأن هناك فرقاً هائلاً بين تعاسة اليوم السابق ومسرّاتهم الراهنة. وكان هذا هو الجواب الذي أراده كورش، فأمسك به، وانطلق منه ليكشف لهم عما يدور في ذهنه، فقال: (يا رجال فارس، أنصتوا إلي: أطيعوا أوامري، وسوف تتمكنون من التمتع بألف مسرّة كهذه دون أن تتعبوا أيديكم في عمل حقير مهين؛ ولكن إذا عصيتم، فستكون مهمة الأمس هي النمط لسلسلة لا تنتهي من المهمات الأخرى التي سترغمون على أدائها.. خذوا بنصيحتي وفوزوا بحريتكم، فأنا الرجل المقدَّر له الاضطلاع بتحريركم، وأعتقد أنكم قادرون على مواجهة الميديين في الحرب كما في أي شيء آخر، وما أقوله لكم هو الحق، فلا تتأخروا، وألقوا عنكم نير آستياجس على الفور).
وكان الفرس غاضبين من طول خضوعهم للميديِّين، وقد وجدوا قائداً في آخر الأمر، فرحَّبوا بأفق حريتهم ترحيباً حماسياً، وهكذا استغلّوا الفرصة وثاروا بقيادة كورش ضد الميديِّين، فنالوا حريتهم.
كيف نضمن لأفكارنا القبول والتطبيق؟
إنّ التحدّي الرئيس الذي لا بد من مواجهته هو كيف نعرض أفكارنا ونبيعها للآخرين ونكون مقنعين في الوقت ذاته. والواقع أن اكتساب هذه المهارة يبقى إحدى المهام الصعبة والبالغة الأهمية لصانع التأثير. ولا ريب أن أفكاراً جديدة كثيرة قد أهملت ولم تنفذ، لا لكونها غير صالحة أو غير عملية، بل لمجرد أن عرضها كان بطريقة سيئة. لذلك، فإننا نقدم لك فيما يلي عشرةً من الاقتراحات التي نعتقد أنها ستفيدك بإذن الله تعالى عندما يكون لديك فكرة ما تريد عرضها على الآخرين وتسويقها لهم، وهي:
1- بيِّن بوضوح، منذ البداية، الغرض من المشروع أو الفكرة أو التغيير الذي ترغب في إدخاله.
2- اعرض الحقائق أو الأسباب التي لديك حسب ترتيب أولوياتها، وشدد بصورة خاصة على الأقوى منها.
3- لا تحاول تجنب ذكر النواحي السيئة في المشروع، إذ لا بد أن تكون له بعض السيئات، وكن مستعداً مسبقاً لمناقشة وعرض هذه النواحي.
4- اعرض قضيتك بشكل يظهرها لصالح الشخص الذي تعرضها عليه، لا لصالحك أنت فقط.
5- اختر وقتاً مناسباً لعرض الموضوع، وتجنب اختيار موعد تضطر فيه إلى الإسراع في العرض بسبب ضيق الوقت، وتذكر أن الساعات المبكرة من النهار أفضل (في الغالب) من الساعات المتأخرة منه.
6- عندما تعرض قضيتك، حاول دائماً أن تفرق بين الحقائق (أي تلك التي لا جدال فيها ولا اجتهاد) وبين الآراء (وهي التي تجتهد فيها وتذكر رأيك أو رأي الآخرين، وهي آراء قابلة للنقاش، فقد تكون صائبة وقد تكون خاطئة).
7- تدرب على عرض قضيتك في مكان خاص مع زميل لك، واطلب منه أن يكون صارماً ودقيقاً في نقده لطريقة عرضك.
8- استعن بالأمثلة الحية والشواهد التاريخية والحقائق والمعلومات الرقمية والإحصائية والدراسات العلمية، وذلك لإثبات وجهة نظرك.
9- كن مقنعاً في نبرات صوتك ولهجتك وأسلوبك في الحديث، واعترف بأخطائك بطريقة لبقة.
10- لمزيد من التأثير استعمل، إن أمكن، المساعدات والوسائل المرئية: كالخرائط والشفافيات والكمبيوتر وغيرها.
عشرون وصيّة عملية:
وإليك أيضاً عشرين وصية وطريقة عمليةً أخرى لتنجح في بيع أفكارك للآخرين، ويمكنك أن تغمض عينيك، ثم تضع إصبعك عشوائياً على أي مربع من المربعات العشرين التالية، ثم تقرأ ما بداخل هذا المربع (أيّاً كان رقم هذا المربع)، ومن ثم تقوم بتطبيق ما قرأت، فإنك إن فعلت ذلك فسوف تعرف الأثر البالغ لهذه الوصايا في التأثير على الآخرين ودفعهم لقبول فكرتك ومن ثم استثمارهم في صناعة الحياة.


(1)
ابدأ بالثناء الصادق
(2)
تجنب الجدال العقيم والمراء السقيم
(3)
احترم الآراء ولا تخطئ الآخرين بعنف
(4)
تحدث بطريقة ودية لبقة مؤدبة
(5)
انصح ولا تنتقد
(6)
اسأل ولا تأمر
(7)
قدر الطرف الآخر وأعطه مقاماً حسناً
(8)
أشعر الطرف الآخر بأن الفكرة فكرته
(9)
بسّط المشكلة
10-
خاطب الفطرة في نفس الطرف الآخر.
(11)
أثن على أدنى تحسن
(12)
دع الطرف الآخر يحتفظ بماء وجهه
(13)
نبّه على الأخطاء بطريقة غير مباشرة
(14)
تحدّث عن أخطائك أوّلاً
(15)
تعاطف مع آراء الطرف الآخر ورغباته
(16)
اعترف بخطتك بسرعة وحزم
(17)
انظر إلى الأمر من وجهة نظر ومصالح الطرف الآخر
(18)
حبب اقتراحك للطرف الآخر
(19)
استدرج الشخص الآخر ليقول نعم
(20)
أثِرْ روح التحدي


منقول

SHAIMMAA
04-19-2011, 05:27 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاك الله خيرا أخى

عصام قاسم
04-19-2011, 10:59 AM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ... جزاك الله و بارك فيك ...أشكرك على مرورك الكريم