دكتور.يسرى عبد الفتاح
12-27-2010, 01:16 AM
يهدف هذا المقال إلى تحليل أسرار التميز الياباني التي ساهمت في تحقيق معجزة اقتصادية بكل المقاييس بعد الحرب العالمية الثانية، بناءً على تجربة شخصية خلال مشواري التعليمي والعملي في اليابان.
وقد أرجع معظم المحللين الاقتصاديين المعجزة اليابانية إلى العوامل الأربعة التالية:
* التعاون الثلاثي الوثيق بين الحكومة والقطاع الخاص ومراكز الأبحاث الجامعية.
* الجهد الجبار الذي بذله رواد الصناعة السبعة الأوائل مثل السيد تويوتا والسيد هوندا.
* الدور الحيوي الذي لعبته الشركات التجارية التسع الكبرى مثل ميتسوبيشي وسوموتومو.
* استيراد مواد خام رخيصة وتحويلها إلى منتجات نهائية عالية القيمة والجودة للتصدير.
إلا أن المحللين قلما تطرقوا إلى عاملٍ خفي ساهم بشكل مباشر في تحقيق المعجزة الاقتصادية اليابانية يتمثل في الاستخدام الأمثل لرأس المال البشري بقطاع الأعمال في بلدٍ يخلو تماماً من الموارد الطبيعية عدا المياه.
بدءا من خمسينيات القرن الماضي، درج قطاع الأعمال الياباني على تجنيد وتأهيل عشرات الملايين من العاملين في المصانع والموظفين بالمكاتب الذين دفعوا ثمناً غالياً من وقتهم وجهدهم ـ كجنود مجهولين ـ لانتشال بلدهم من دمار الحرب في ظل بيئة عمل مستقرة وفرتها شركاتهم.
وتعتبر الموارد البشرية العنصر الأهم في بنية الشركات اليابانية ونموها وقدرتها التنافسية، لذلك تولي اهتماماً بالغاً لعملية اختيار وتدريب موظفيها الجدد ليس لسد حاجات آنية، ولكن بناءً على خطط توظيف مستقبلية.
لذلك طورت الشركات اليابانية نظام التوظيف مدى الحياة (Life Employment System)، حيث يقضي الموظف طوال سنوات عمره العملية في شركة واحدة ليصبح هذا النظام تقليداً اقتصادياً واجتماعياً راسخاً فيما بعد.
ولا شك أن سياسة العمالة المستقرة لها صلة بمعطيات موضوعية ناتجة عن عدم الإحساس بالأمن القومي لخلو اليابان من الموارد الطبيعية وكثرة الزلازل والبراكين في جزر جبلية صغيرة.
يضاف إلى ذلك، قنبلتان نوويتان وهزيمة موجعة في الحرب العالمية الثانية جعلت المجتمع الياباني يعيد ترتيب أولوياته ويتواضع عن كبريائه ويسخِّر جلَّ طاقاته لتحويل الهزيمة إلى قوة دفع للحاق بركب الدول الغربية اقتصادياً وتقنياً من خلال الاستثمار المكثف في الموارد البشرية.
ونظراً لعدم وجود سوق عمالة ماهرة حينها في اليابان، كان لزاماً على الشركات أن تحرص على استقطاب وتدريب خريجي الجامعات المتميزة مثل واسيدا، وطوكيو وذلك لقدرتهم على تكوين علاقات عمل ناجحة مع من سبقوهم والذين غالباً ما يشغلون مناصب قيادية في القطاعين العام والخاص في ظاهرة اجتماعية تُسمى (سنباي كوهاي كانكي) ومعناها أنه يجب على الكبير مساعدة الأصغر خصوصاً إذا كان يجمعهم رابط مثل الجامعة أو القرية.
حال اختيار الموظفين الجدد، تشرع الشركات اليابانية فوراً في إخضاع كل موظف لسلسلة من برامج تدريب مستمرة على رأس العمل بإشراف مباشر من الكوادر الأكثر خبرةً مع تدويره على جميع الأقسام حتى يُلّم بمهام الشركة مما يعزز إيمانه برسالتها وولاءه لها.
وبما أن الشركة تتحمل تبعات التأهيل دون استفادة حقيقية من المستجدين لعدة سنوات، فإنها حريصة على الاحتفاظ بموظفيها حتى سن التقاعد، لذلك ابتدعت الشركات اليابانية أنظمة حصرية للتدريب والترقيات والتقاعد، ليس من السهل على الموظف التضحية بها والالتحاق من جديد بشركة أخرى تعطي جل اهتمامها لموظفيها القدامى.
طبعاً، هناك قيود اجتماعية وراء حرص الشركات على الاحتفاظ بموظفيها والاهتمام بأدق شؤونهم العملية والخاصة، حيث إن صورتها الذهنية لدى الرأي العام تعتمد على موقفها من العاملين فيها، فأكثر الشركات نجاحاً في اليابان ليست الأكثر نمواً وأرباحاً، بل الأكثر قدرةً على توفير الاستقرار الوظيفي لكوادرها ومعاملتهم كشركاء.
وفي الحالات النادرة التي تضطر فيها شركة التخلي عن أحد موظفيها، فإنها غالباً ما تلجأ إلى وسائل أخرى غير الفصل خوفاً على سمعتها في مجتمع المعلومات الياباني، كأن تكتفي بعدم تكليفه بأي أعمال جديدة لعدة أيام مما يجعل موقفه حرجاً أمام زملائه أو أن تعيَّن موظف أصغر سناً منه مديراً عليه فيستقيل طوعاً.
فالشركة التي تستغني عن موظفيها مكروهة من قِبل المجتمع الياباني، الأمر الذي يحدّ من إقبال المستهلكين على منتجاتها وخدماتها ويؤثر سلباً في عوائدها وقيمة أسهمها في السوق المالية، إضافة إلى إحجام خريجي الجامعات المتميزة عن الالتحاق بها.
الجدير ذكره أن القيود الاجتماعية والاقتصادية على الشركات المذكورة أعلاه بدأت تخف حدتها بعد بلوغ اليابان مرحلة متقدمة تقنياً واقتصادياً تقارع الدول الغربية وبدء تكوّن سوق عمالة ماهرة إضافة إلى رغبة الأجيال الجديدة في قطف ثمار ما زرعه الآباء.
وختاماً، فإن الإدارة المتميزة لرأس المال البشري ضمن بيئة عمل مستقرة كان لها ثمارها الإيجابية على العاملين وقطاع الأعمال معاً، وساهم بشكلٍ مباشر في رفع الإنتاجية والجودة وتبؤ اليابان مركزاً متقدماً بين الدول الصناعية في ظاهرةٍ جديرة باهتمام واضعي السياسات العمالية السعودية... ولأسرار التميّز الياباني بقية في طريقها للنشر.
يهدف هذا المقال إلى تحليل أسرار المعجزة الاقتصادية التي حققتها اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك لاستجلاء إمكانية الاستفادة منها أو من بعض جوانبها في بيئة الأعمال السعودية.
وتتسم بيئة الأعمال اليابانية بالانتماء المتبادل بين الشركات والعاملين فيها لدرجة أن الموظف يعرِّف نفسه مسبوقاً باسم شركته معتبراً إياها عائلته، وهي بالفعل كذلك، فأحسن الشركات سمعةً في المجتمع الياباني هي تلك التي ترعى أبناءها، كما تحنو المرضعات على الفطيم. روح العائلة هذه متأصلة في أذهان إدارات الشركات اليابانية ليقينها أن الموظفين السعداء يجلبون العملاء، كما أن المديرين يعتبرون أنفسهم كبار العائلة، خصوصاً أنهم بدأوا موظفين صغارا مباشرةً بعد الجامعة، وتدرجوا صعوداً في الهيكل التنظيمي للشركة. الهيكل التنظيمي للشركات اليابانية لا يفرِّق بين المديرين والموظفين، ويخلو تماماً من أسماء الأشخاص، ويكتفي بمسميات الإدارات والأقسام، كما أنه قلما يوجد وصف عمل يحدِّد المهام لكل موظف، فالجميع يعملون في فرق عمل متعدِّدة ومتغيّرة. ومازلت أذكر زيارتي لمقر شركة ميتسوي الرئيسي في طوكيو، حيث أوضح المسؤول أن شركته تعمل من خلال فرق عمل يتراوح عدد أعضائها من 5 إلى 30، يتبادلون وجهات النظر والأفكار وصولاً لتوافق جماعي في اجتماعاتٍ مطوّلة وفق مبادئ الشركة التنظيمية المشتملة على متابعة الأسواق والابتكار المستمر والعلاقات الإنسانية. اللافت للنظر في ميتسوي وغيرها من الشركات اليابانية أن العلاقات الإنسانية أهم من الوظيفية، لذلك يحرص المديرين على مشاركة موظفيهم في فرق عمل الإدارات الأخرى لخلق مناخٍ من الانسجام والوحدة. وغالباً ما يدعو مديرو الإدارات موظفيهم إلى تناول طعام العشاء خارج الشركة ودفع كامل التكلفة والانصراف مبكراً، تاركين الموظفين لأخذ راحتهم في “الحش” الذي قد يطوله والتنفيس عمّا بداخلهم. وتمتد العلاقات الإنسانية لتشمل المورّدين والعملاء، كما حصل في شركة أوريل للروبات، عندما واجه أحد مورديها صعوبات مالية سارعت الشركة إلى مده بمساعدات مادية وخبرات إدارية حتى تخطى مشاكله، أو حين أعلن أحد عملائها إفلاسه حيث قامت “أوريل” بتوظيف العاملين في شركته حتى لا يجدوا أنفسهم وأسرهم في الشارع.
جدير بالذكر أن الشركات اليابانية تخلو من أي فوارق كبيرة بين المخصصات السنوية لكبار المدراء التنفيذيين وموظفي المراتب الدنيا التي لا تتعدى 7.5 ضعفاً حسب إحصائيات الغرفة التجارية الصناعية اليابانية.
في أوقات تعثر أداء الشركة لأي سبب يتم خفض رواتب الإدارة العليا أولاً، يتبعه في أصعب الحالات الخصم من الإدارة المتوسطة بشكل تطوعي، أما مخصصات المراتب الدنيا فلا يطولها أي تخفيض مهما كانت درجة الركود الاقتصادي.
أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، خفّض كبار المديرين التنفيذيين في شركات الأنسجة والحديد وبناء السفن والمقاولات الإنشائية رواتبهم بنسبة تراوحت بين 15 في المائة و20 في المائة لمدة عامٍ واحد لتخفيف النفقات حفاظاً على سلاسة الأداء في أوقات الكساد بمقتضى روح العائلة الواحدة.
وللمحافظة على العمل بروح العائلة والتقليل من حدة المنافسة بين الموظفين، لجأت الشركات اليابانية إلى اتباع نظام الترقيات على أساس السن، يساعدها في ذلك تجانس الشعب الياباني وتماثل تعليمه الجامعي وسلوكيات العمل في مجتمعٍ تحيته الصباحية شد حيلك في العمل (قنبته كودساي).
طبعاً، نظام الترقيات هذا القائم على الأقدمية فرض على الشركات المحافظة على معدلات نمو كبيرة حتى يتسنى لها خلق وظائف جديدة للقادمين من أسفل الهيكل التنظيمي، وإلا فإنها مضطرة لإحداث مناصب وهمية تعقَّد البنية الإدارية وترفع التكاليف. لذلك عمدت معظم الشركات اليابانية مثل إستان للمجمعات التجارية إلى تشجيع التقاعد المبكر بعد مضي 20 سنة من الخدمة، خصوصاً لمن لا توجد له فرصة للترقي إلى وظائف عليا. وتنظّم الشركات اليابانية عدداً من الأنشطة الثقافية والترفيهية لموظفيها، وغالباً ما تُنشئ نواديٍ رياضية ومنتجعات سياحية خارج المدن لهذا الغرض، وفي حالات كثيرة تُفتح هذه المنشآت للمجتمعات المحلية.
وتتّبع شركة كانون تقليداً اجتماعياً يابانياً في الاهتمام بكبار السن من خلال تكوين جمعية صداقة للمتقاعدين، بلغ عدد أعضائها 1362 متقاعداً بحلول عام 1984م، يقضون أوقاتهم في ناد رياضي وصحي مخصّص للكبار.
حقيقة الأمر أن الشركات اليابانية ليست منظمات اقتصادية تنشد الربح والنمو فحسب، بل أيضاً كيانات اجتماعية تركّز على الانسجام والوحدة بين العاملين فيها وإذابة الفوارق المعنوية والمادية بين الإدارة العليا وصغار الموظفين، والتعاون مع المورّدين والعملاء وخدمة المجتمع بشكلٍ عام، بالإضافة إلى حرصها على الانتماء للاتحاد القطاعي المتخصص في المجال نفسه. وفي الختام، فإن هذا المقال حول أسرار المعجزة الاقتصادية في اليابان، يبيّن أن معظم الممارسات اليابانية لها بُعد إنساني يمكن تكييفها لتلائم بيئة الأعمال السعودية ؛ فقد نقلنا الكثير من بيئة الغرب المختلفة عنا ؛ وربما حان الوقت للاستفادة من الشرق.
__________________
وقد أرجع معظم المحللين الاقتصاديين المعجزة اليابانية إلى العوامل الأربعة التالية:
* التعاون الثلاثي الوثيق بين الحكومة والقطاع الخاص ومراكز الأبحاث الجامعية.
* الجهد الجبار الذي بذله رواد الصناعة السبعة الأوائل مثل السيد تويوتا والسيد هوندا.
* الدور الحيوي الذي لعبته الشركات التجارية التسع الكبرى مثل ميتسوبيشي وسوموتومو.
* استيراد مواد خام رخيصة وتحويلها إلى منتجات نهائية عالية القيمة والجودة للتصدير.
إلا أن المحللين قلما تطرقوا إلى عاملٍ خفي ساهم بشكل مباشر في تحقيق المعجزة الاقتصادية اليابانية يتمثل في الاستخدام الأمثل لرأس المال البشري بقطاع الأعمال في بلدٍ يخلو تماماً من الموارد الطبيعية عدا المياه.
بدءا من خمسينيات القرن الماضي، درج قطاع الأعمال الياباني على تجنيد وتأهيل عشرات الملايين من العاملين في المصانع والموظفين بالمكاتب الذين دفعوا ثمناً غالياً من وقتهم وجهدهم ـ كجنود مجهولين ـ لانتشال بلدهم من دمار الحرب في ظل بيئة عمل مستقرة وفرتها شركاتهم.
وتعتبر الموارد البشرية العنصر الأهم في بنية الشركات اليابانية ونموها وقدرتها التنافسية، لذلك تولي اهتماماً بالغاً لعملية اختيار وتدريب موظفيها الجدد ليس لسد حاجات آنية، ولكن بناءً على خطط توظيف مستقبلية.
لذلك طورت الشركات اليابانية نظام التوظيف مدى الحياة (Life Employment System)، حيث يقضي الموظف طوال سنوات عمره العملية في شركة واحدة ليصبح هذا النظام تقليداً اقتصادياً واجتماعياً راسخاً فيما بعد.
ولا شك أن سياسة العمالة المستقرة لها صلة بمعطيات موضوعية ناتجة عن عدم الإحساس بالأمن القومي لخلو اليابان من الموارد الطبيعية وكثرة الزلازل والبراكين في جزر جبلية صغيرة.
يضاف إلى ذلك، قنبلتان نوويتان وهزيمة موجعة في الحرب العالمية الثانية جعلت المجتمع الياباني يعيد ترتيب أولوياته ويتواضع عن كبريائه ويسخِّر جلَّ طاقاته لتحويل الهزيمة إلى قوة دفع للحاق بركب الدول الغربية اقتصادياً وتقنياً من خلال الاستثمار المكثف في الموارد البشرية.
ونظراً لعدم وجود سوق عمالة ماهرة حينها في اليابان، كان لزاماً على الشركات أن تحرص على استقطاب وتدريب خريجي الجامعات المتميزة مثل واسيدا، وطوكيو وذلك لقدرتهم على تكوين علاقات عمل ناجحة مع من سبقوهم والذين غالباً ما يشغلون مناصب قيادية في القطاعين العام والخاص في ظاهرة اجتماعية تُسمى (سنباي كوهاي كانكي) ومعناها أنه يجب على الكبير مساعدة الأصغر خصوصاً إذا كان يجمعهم رابط مثل الجامعة أو القرية.
حال اختيار الموظفين الجدد، تشرع الشركات اليابانية فوراً في إخضاع كل موظف لسلسلة من برامج تدريب مستمرة على رأس العمل بإشراف مباشر من الكوادر الأكثر خبرةً مع تدويره على جميع الأقسام حتى يُلّم بمهام الشركة مما يعزز إيمانه برسالتها وولاءه لها.
وبما أن الشركة تتحمل تبعات التأهيل دون استفادة حقيقية من المستجدين لعدة سنوات، فإنها حريصة على الاحتفاظ بموظفيها حتى سن التقاعد، لذلك ابتدعت الشركات اليابانية أنظمة حصرية للتدريب والترقيات والتقاعد، ليس من السهل على الموظف التضحية بها والالتحاق من جديد بشركة أخرى تعطي جل اهتمامها لموظفيها القدامى.
طبعاً، هناك قيود اجتماعية وراء حرص الشركات على الاحتفاظ بموظفيها والاهتمام بأدق شؤونهم العملية والخاصة، حيث إن صورتها الذهنية لدى الرأي العام تعتمد على موقفها من العاملين فيها، فأكثر الشركات نجاحاً في اليابان ليست الأكثر نمواً وأرباحاً، بل الأكثر قدرةً على توفير الاستقرار الوظيفي لكوادرها ومعاملتهم كشركاء.
وفي الحالات النادرة التي تضطر فيها شركة التخلي عن أحد موظفيها، فإنها غالباً ما تلجأ إلى وسائل أخرى غير الفصل خوفاً على سمعتها في مجتمع المعلومات الياباني، كأن تكتفي بعدم تكليفه بأي أعمال جديدة لعدة أيام مما يجعل موقفه حرجاً أمام زملائه أو أن تعيَّن موظف أصغر سناً منه مديراً عليه فيستقيل طوعاً.
فالشركة التي تستغني عن موظفيها مكروهة من قِبل المجتمع الياباني، الأمر الذي يحدّ من إقبال المستهلكين على منتجاتها وخدماتها ويؤثر سلباً في عوائدها وقيمة أسهمها في السوق المالية، إضافة إلى إحجام خريجي الجامعات المتميزة عن الالتحاق بها.
الجدير ذكره أن القيود الاجتماعية والاقتصادية على الشركات المذكورة أعلاه بدأت تخف حدتها بعد بلوغ اليابان مرحلة متقدمة تقنياً واقتصادياً تقارع الدول الغربية وبدء تكوّن سوق عمالة ماهرة إضافة إلى رغبة الأجيال الجديدة في قطف ثمار ما زرعه الآباء.
وختاماً، فإن الإدارة المتميزة لرأس المال البشري ضمن بيئة عمل مستقرة كان لها ثمارها الإيجابية على العاملين وقطاع الأعمال معاً، وساهم بشكلٍ مباشر في رفع الإنتاجية والجودة وتبؤ اليابان مركزاً متقدماً بين الدول الصناعية في ظاهرةٍ جديرة باهتمام واضعي السياسات العمالية السعودية... ولأسرار التميّز الياباني بقية في طريقها للنشر.
يهدف هذا المقال إلى تحليل أسرار المعجزة الاقتصادية التي حققتها اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك لاستجلاء إمكانية الاستفادة منها أو من بعض جوانبها في بيئة الأعمال السعودية.
وتتسم بيئة الأعمال اليابانية بالانتماء المتبادل بين الشركات والعاملين فيها لدرجة أن الموظف يعرِّف نفسه مسبوقاً باسم شركته معتبراً إياها عائلته، وهي بالفعل كذلك، فأحسن الشركات سمعةً في المجتمع الياباني هي تلك التي ترعى أبناءها، كما تحنو المرضعات على الفطيم. روح العائلة هذه متأصلة في أذهان إدارات الشركات اليابانية ليقينها أن الموظفين السعداء يجلبون العملاء، كما أن المديرين يعتبرون أنفسهم كبار العائلة، خصوصاً أنهم بدأوا موظفين صغارا مباشرةً بعد الجامعة، وتدرجوا صعوداً في الهيكل التنظيمي للشركة. الهيكل التنظيمي للشركات اليابانية لا يفرِّق بين المديرين والموظفين، ويخلو تماماً من أسماء الأشخاص، ويكتفي بمسميات الإدارات والأقسام، كما أنه قلما يوجد وصف عمل يحدِّد المهام لكل موظف، فالجميع يعملون في فرق عمل متعدِّدة ومتغيّرة. ومازلت أذكر زيارتي لمقر شركة ميتسوي الرئيسي في طوكيو، حيث أوضح المسؤول أن شركته تعمل من خلال فرق عمل يتراوح عدد أعضائها من 5 إلى 30، يتبادلون وجهات النظر والأفكار وصولاً لتوافق جماعي في اجتماعاتٍ مطوّلة وفق مبادئ الشركة التنظيمية المشتملة على متابعة الأسواق والابتكار المستمر والعلاقات الإنسانية. اللافت للنظر في ميتسوي وغيرها من الشركات اليابانية أن العلاقات الإنسانية أهم من الوظيفية، لذلك يحرص المديرين على مشاركة موظفيهم في فرق عمل الإدارات الأخرى لخلق مناخٍ من الانسجام والوحدة. وغالباً ما يدعو مديرو الإدارات موظفيهم إلى تناول طعام العشاء خارج الشركة ودفع كامل التكلفة والانصراف مبكراً، تاركين الموظفين لأخذ راحتهم في “الحش” الذي قد يطوله والتنفيس عمّا بداخلهم. وتمتد العلاقات الإنسانية لتشمل المورّدين والعملاء، كما حصل في شركة أوريل للروبات، عندما واجه أحد مورديها صعوبات مالية سارعت الشركة إلى مده بمساعدات مادية وخبرات إدارية حتى تخطى مشاكله، أو حين أعلن أحد عملائها إفلاسه حيث قامت “أوريل” بتوظيف العاملين في شركته حتى لا يجدوا أنفسهم وأسرهم في الشارع.
جدير بالذكر أن الشركات اليابانية تخلو من أي فوارق كبيرة بين المخصصات السنوية لكبار المدراء التنفيذيين وموظفي المراتب الدنيا التي لا تتعدى 7.5 ضعفاً حسب إحصائيات الغرفة التجارية الصناعية اليابانية.
في أوقات تعثر أداء الشركة لأي سبب يتم خفض رواتب الإدارة العليا أولاً، يتبعه في أصعب الحالات الخصم من الإدارة المتوسطة بشكل تطوعي، أما مخصصات المراتب الدنيا فلا يطولها أي تخفيض مهما كانت درجة الركود الاقتصادي.
أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، خفّض كبار المديرين التنفيذيين في شركات الأنسجة والحديد وبناء السفن والمقاولات الإنشائية رواتبهم بنسبة تراوحت بين 15 في المائة و20 في المائة لمدة عامٍ واحد لتخفيف النفقات حفاظاً على سلاسة الأداء في أوقات الكساد بمقتضى روح العائلة الواحدة.
وللمحافظة على العمل بروح العائلة والتقليل من حدة المنافسة بين الموظفين، لجأت الشركات اليابانية إلى اتباع نظام الترقيات على أساس السن، يساعدها في ذلك تجانس الشعب الياباني وتماثل تعليمه الجامعي وسلوكيات العمل في مجتمعٍ تحيته الصباحية شد حيلك في العمل (قنبته كودساي).
طبعاً، نظام الترقيات هذا القائم على الأقدمية فرض على الشركات المحافظة على معدلات نمو كبيرة حتى يتسنى لها خلق وظائف جديدة للقادمين من أسفل الهيكل التنظيمي، وإلا فإنها مضطرة لإحداث مناصب وهمية تعقَّد البنية الإدارية وترفع التكاليف. لذلك عمدت معظم الشركات اليابانية مثل إستان للمجمعات التجارية إلى تشجيع التقاعد المبكر بعد مضي 20 سنة من الخدمة، خصوصاً لمن لا توجد له فرصة للترقي إلى وظائف عليا. وتنظّم الشركات اليابانية عدداً من الأنشطة الثقافية والترفيهية لموظفيها، وغالباً ما تُنشئ نواديٍ رياضية ومنتجعات سياحية خارج المدن لهذا الغرض، وفي حالات كثيرة تُفتح هذه المنشآت للمجتمعات المحلية.
وتتّبع شركة كانون تقليداً اجتماعياً يابانياً في الاهتمام بكبار السن من خلال تكوين جمعية صداقة للمتقاعدين، بلغ عدد أعضائها 1362 متقاعداً بحلول عام 1984م، يقضون أوقاتهم في ناد رياضي وصحي مخصّص للكبار.
حقيقة الأمر أن الشركات اليابانية ليست منظمات اقتصادية تنشد الربح والنمو فحسب، بل أيضاً كيانات اجتماعية تركّز على الانسجام والوحدة بين العاملين فيها وإذابة الفوارق المعنوية والمادية بين الإدارة العليا وصغار الموظفين، والتعاون مع المورّدين والعملاء وخدمة المجتمع بشكلٍ عام، بالإضافة إلى حرصها على الانتماء للاتحاد القطاعي المتخصص في المجال نفسه. وفي الختام، فإن هذا المقال حول أسرار المعجزة الاقتصادية في اليابان، يبيّن أن معظم الممارسات اليابانية لها بُعد إنساني يمكن تكييفها لتلائم بيئة الأعمال السعودية ؛ فقد نقلنا الكثير من بيئة الغرب المختلفة عنا ؛ وربما حان الوقت للاستفادة من الشرق.
__________________