عبدالرحمن الدويرج
11-28-2010, 12:07 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التفاوض الفعال
زهران الدباغ
عندما نَتحدَّث عن التفاوض يُهيَّأ لبعضٍ منا أنه يخصّ العلاقات الدولية فقط، بينما هو أمر أصبح يتغلغل في حياتنا بأكملها، حيث اتسع مفهومه في الوقت الحاضر، ليعُمّ كل ميادين الحياة بما فيها التجارة والأعمال، وحتى الحياة الأسرية نفسها..
بعضنا يَعُدّ التفاوض عِلماً مستقلاً، والآخَر يُدرجِه تحت مقولة الفنّ، وإذا استطعنا أن نقول: إنه واقع موجود في الحياة، ولا بُدّ أن يكون للدراسة والاستعانة بتجارب الآخَرين أثر مهم في تطويره والاستفادة منه فإننا نكون قد وضعنا له تعريفاً مناسباً.
ونحن نرى هنا أنه بعد دراسته سواء أكان علماً أو فناً، فإنه في النهاية مَلَكة شخصية، ولو أردنا أن نسميها (فنّ إدارة الاختلاف)، لأن الدراسة وحدها لا تكفي لاكتساب مَلَكة مُعَيَّنة، فالمحامي مثلاً قد لا يكون ناجحاً في مُرافعة شَفوية مثل محامٍ آخَر، مع أنهما تلقَّيا تدريباً واحداً.
التفاوض هو وسيلتنا لإدارة أمور الحياة المختلفة، وهو براعة في الاتصال وربما في التواصل أيضاً، فهو -أي التفاوض- الذي يجعل الموضوع برُمَّته مُهَيأً للنجاح أو الفشل؛ لذا فإن للتفاوض الناجح خُطُوات ناجحة علينا الإلمام بها كيْ نستطيع السير إلى الأمام، ومِن هذه الخُطُوات:
- الإعداد للتفاوض
الإعداد لأيّ موضوع يعني معرفة خفاياه، وسَبْر أغواره العميقة، وهذا ما ينطبق على التفاوض، فلا يمكن أن نتفاوض على موضوع لا نعرفه، ولا بُدّ أن نسأل: بماذا نبدأ؟
لا بُدّ أن نبدأ بالمعلومات الخاصّة بالأمر الذي سيجري التفاوض حوله؛ لأن للمعلومات الدقيقة أهمية خاصّة، حيث تمكِّن المفاوِض من وضع الخُطّة الملائمة، والبدائل المناسبة، ومساحة التنازل الممكنة، وأهم هذه الأشياء: إمكانية التحكم في مسار العملية التفاوضية، فالموقف التفاوضيّ بأكمله مبنيّ على هذه الأوراق التي قد تكون معلومات يمكن الحصول عليها بسهولة، أو قد تكون صعبة تتطلب حتى معلومات استخباراتية.
ربما يسأل سائل: وما هي المعلومات التي يجب علينا الحصول عليها؟
لا شكّ أن جميع المعلومات مهمّة لكن من حيث المبدأ علينا أن نكون على دراية تامّة بالموضوع الذي سيتم التفاوض حوله، أيْ يجب ألا تكون معلوماتنا ناقصة حول هذا الأمر، وبعد أن تنجلي صورة الموضوع ننتقل إلى معرفة الأطراف التي سنتفاوض معها، ومدى حماسة هذه الأطراف للعملية التفاوضية، بعدها ننتقل إلى عناصر التفاوض، فتلك العناصر منها ما هو ثابت ومنها ما يمكن المساومة عليه.
هذه المعلومات مهمّة لأنها تجعل الصورة واضحة، وعندما يتم الانتقال إلى طاولة التفاوض لا نُفاجَأ بمعطيات ليس لدينا فكرة عنها، وكيْ لا نقع في مآزق لم نأخذها في الحسبان أيضاً.
يقول جون فولر في كتابه دليل المفاوِض: "الوقت الذي تخصِّصه لإعداد هدفك من التفاوض سوف يعود عليك بالكثير من الفوائد حين تجلس إلى مائدة المفاوَضات؛ لذا لا بُدّ من التخطيط بشكل جيِّد للموضوع بوضع أهداف واضحة مَرِنة واقعية".
وإذا كان ثمّة نماذج ناجحة تشبه العملية المتفاوَض عليها فلا بُدّ من الاستئناس بها والاستفادة منها، أيْ إنّ عملية القياس مهمّة أيضاً من أجل النجاح.
- الخُطّة التفاوضية
ليس بالضرورة أن يكون التفاوض مبنياً على خصومة وعداء، بل قد يكون هناك مصلحة مشتركة لجميع الأطراف، لكن لكل طَرَف وجهة نظره، والمفاوِض الماهر هو الذي يفرض وجهة نظره بشكل غير مباشر، ونشير هنا إلى أن لكل تفاوض هدفاً معيناً، والأهداف تحتاج إلى وضع برامج وخُطَط مدروسة لتحقيقها؛ لذلك علينا ألا نهمل مبدأ النسبية في النجاح والخسارة، فليس النجاح إمّا أن نحصل على الصفقة كما نريدها وإلا لا، ولكنَّ النجاح أن نتوصَّل إلى حَلّ مُرْضٍ، وقد يكون مُرْضياً للجميع عندما يكون وَسَطياً.
مع البَدْء بالتخطيط لعملية التفاوض حول موضوع تجاريّ، أو صفقة ما، أو غير ذلك لا بُدّ من
وضع "استراتيجية وتكتيك"، وضِمْن هذه الاستراتيجية تدور العموميات، ومع التكتيك تكون الخُطُوات، فبعد حصولنا على المعلومات والبدء بالتخطيط، لا بُدّ من وضع رؤية وتصور شامل حول الموضوع بأكمله، فالتخطيط هو الكفيل بإيجاد الحلول، والتخطيط هنا لا يعني الحلم بالصفقة كاملة دون النظر إلى الأمور الممكنة، وغير الممكنة، بل هو عملية مستمرة حيث يتم تغيير الخُطّة إذا ما وُجِد بديلٌ أفضلُ بعد التشاور مع الفريق حول الهدف الأعلى، والبدائل وكل أمر آخَر تقتضيه ضرورة النجاح.
لو أردنا تبسيط الأمور أكثر فإننا نرى بأن التفاوض قد لا يكون بين فريقيْن فقط في بعض الأحيان، فهناك أطراف أخرى لها مصلحة فيه وقد لا تظهر للعِيان، نرى هذا يومياً في عالم السياسة، حيث تكون تلك الأطراف على شكل "لوبي" أو ما يُدعَى "جماعات ضاغطة" ومن الممكن وجودها في الصفقات الاقتصادية أو غيرها، من هنا يجب على فريق التفاوض أن يأخذ هذه الجماعات بالحسبان، لأن هذه الفئات قد لا تكون ظاهرة في المشهد العامّ لكنها مؤثِّرة حتى في التفاصيل.
إذا ما كانت خُطّة فريق التفاوض محكمة، فمن المؤكَّد أن النتائج تكون بمستوى الطموحات، ويُكلَّل العمل بالنجاح، وحول هذا الموضوع تقول الدكتورة جوديت فيشر في كتابها (إدارة الاختلاف): "إن عملية التفاوض تبدأ بالتوتر والقلق بشأن المصالح والقضايا غيرَ أنّ المفاوَضات الناجحة تنتهي إلى حلّ مقبول".
- المفاوِض أو الفريق المفاوِض
المفاوِض هو الذي يستطيع إنجاح العملية التفاوضية، فالشخص المفاوِض، أو الفريق المفاوِض لا بُدّ أن يتمتع بمزايا محددة في الشكل، والمضمون أيضاً، حيث إن المفاوِض لا بُدّ أن:
- يتمتع بحضور شخصيّ، أيْ إن وجوده في المكان يبعث على الراحة النفسية لدى الطَّرَف الآخَر بهندامه، أو لُغَة جسده، أو أشياء أخرى تُعطي شخصه جاذبية الحضور.
- يتمتع بصفات الدبلوماسيّ، قليل الكلام كيْ لا يزلَ لسانه بأمر مهمّ لا يرغب في البوح به، يبدو عليه الرقة واللين ظاهراً، لكنه يستطيع حسم الأمور عند الضرورة.
- يكون لديه العلم والمعرفة والتخصص، فإذا كان مجال التفاوض تجارياً مثلاً لا بُدّ أن يكون لديه إلمام كامل بالتجارة وقوانينها أو على الأقل بالموضوع الذي سيتم التفاوض حوله.
- يتميز بمتانة الأعصاب وهدوئها دون أن يخضع للاستفزاز بحيث تكون ردود أفعاله محسوبة بما يخدم الموضوع التفاوضيّ، كما يستطيع التفاوض بالحُجّة المقْنِعة ويظهرها في التوقيت المناسب.
أمّا إذا كان الموضوع يتعلق بفريق تفاوض فلا بُدّ أن يكون لهذا الفريق قائد، وأن يَعْرف كل شخص في الفريق دوره بشكل جيد بحيث لا يجري خلاف في الرأْي عند التفاوض إلا بشكل مقصود وفي مصلحة الصفقة.
بقي علينا ألا ننسى أن أهم شيء للنجاح هو محبة العمل الذي نقوم به؛ لذا علينا اختيار المفاوِض المحُبّ لعمله، والذي يكون متحمساً أكثر من غيره لهذا العمل، فمحبة العمل شرط أساسي للنجاح.
- الخُطُوات
1. الخُطْوة الأولى
عندما ننتهي من إعداد فريق التفاوض لا بُدّ من التسريع في الإجراءات الشكلية، فعلينا أن نعرف مكان وزمان التفاوض لما لهذيْن الأمريْن من أهمية كبيرة وبقدر ما نكون مسيطرين على عاملي الزمان والمكان بقدر ما تكون بدايتنا ناجحة.
2. الخُطْوة الثانية
هي تحضير الوثائق والمستندات التي تدعمنا خلال عملية التفاوض، لأن الهدف مِن كل العملية التفاوضية هو الوصول إلى صيغة ما للاتفاق النهائيّ ثم توقيعه.
3. الخطوة الثالثة
بعد كل هذه الأمور المهمّة نصل إلى نقطة البدء في التفاوض وهي نقطة النهاية أيضاً؛ لأن المقَدِّمات الصحيحة تعطي نتائج صحيحة، فقد تنتهي عملية التفاوض بالنجاح ساعة البدء، مع هذا يجب السير في التفاوض التجاريّ أو الإداريّ على خُطَا التفاوض السياسيّ، فكما لا توجد عداوات دائمة في السياسة كذلك لا صداقات دائمة؛ لذلك علينا عدم الاستهانة بالآخَر، ونحن هنا لن نسميه خَصماً كما جرت العادة لأن في الخصومة تناقض مصالح، وفي التفاوض قد يكون هناك مصالح مشتركة.
من أهم ركائز النجاح في التفاوض عدمُ إفشاء الأسرار، والتروِّي عند اتخاذ القرارات، ولا بُدّ من معرفة لُغَة العصر أيضاً وهي السعْي وراء إشباع الحاجات النفسية للآخَر؛ لأن إدراك الحاجة النفسية واللعب عليها هو عامل مهمّ أيضاً، لكن لا بُدّ لكل شيء من نهاية ويجب أن تنتهي من عملية التفاوض في زمن مقبول، فإمّا أنْ تصل المفاوضات إلى ختامها فتنتهي عندما يشعر الطَّرَفان بأنها لم تَعُدْ مجدية، أو يشعر أنها استنزفت الجهد والوقت دون جدوى، أو عند إتمام الصفقة، وفي أيّ مرحلة وصلت إليها المفاوضات يجب عدم الخوف من الاعتذار عن الصفقة إذا كان ذلك الاعتذار في مصلحة العمل.
يمكننا القول في الختام بأن التفاوض هو عملية متكاملة، وهي كالأفكار التي تنتاب الشخص الذي يخترع اختراعاً، أو الشاعر الذي يؤلِّف قصيدة، أو الفنان الذي يرسُم لوحة، وكل هؤلاء لا بُدّ أن يمر تفكيرهم بمراحل حتى يخرج إبداعهم إلى النور، وهذه المراحل غير مُرَتّبة إلا في ذهن من يقوم بالعمل، تراكمت، ثم أتت لحظة الإبداع فحوَّل الفكرة إلى جمال، لكن لو حللنا الموضوع لوجدنا أن الفكرة ليست بنت اللحظة، بل نتيجة تراكمات معينة، وكذلك التفاوض قد لا نستطيع أن نقول هذه الخطوة تحتاج لأيام وتلك لساعات بل هي عملية كلية يمكن تحليل مراحلها المتتالية، ومع هذا لا بُدّ لنا أن نتحدث عن عنصر مهم في العملية هو عنصر ثقافة المفاوِض وتفهُّمه لثقافة الشخص الآخَر، لأن الخلفية الثقافية تحدِّد المفاتيح التي يمكننا الدخول بواسطتها، فالثقافة العربية مختلفة عن الإنكليزية أو اليابانية؛ لذا نعوِّل على الشخص المنفتح ثقافياً لأنه يمكنه أن يتفهَّم الآخَر وينجح من خلال إيصال رسالته بشكل أسهل
المصدر ـ مجلة الأفكار الذكية
التفاوض الفعال
زهران الدباغ
عندما نَتحدَّث عن التفاوض يُهيَّأ لبعضٍ منا أنه يخصّ العلاقات الدولية فقط، بينما هو أمر أصبح يتغلغل في حياتنا بأكملها، حيث اتسع مفهومه في الوقت الحاضر، ليعُمّ كل ميادين الحياة بما فيها التجارة والأعمال، وحتى الحياة الأسرية نفسها..
بعضنا يَعُدّ التفاوض عِلماً مستقلاً، والآخَر يُدرجِه تحت مقولة الفنّ، وإذا استطعنا أن نقول: إنه واقع موجود في الحياة، ولا بُدّ أن يكون للدراسة والاستعانة بتجارب الآخَرين أثر مهم في تطويره والاستفادة منه فإننا نكون قد وضعنا له تعريفاً مناسباً.
ونحن نرى هنا أنه بعد دراسته سواء أكان علماً أو فناً، فإنه في النهاية مَلَكة شخصية، ولو أردنا أن نسميها (فنّ إدارة الاختلاف)، لأن الدراسة وحدها لا تكفي لاكتساب مَلَكة مُعَيَّنة، فالمحامي مثلاً قد لا يكون ناجحاً في مُرافعة شَفوية مثل محامٍ آخَر، مع أنهما تلقَّيا تدريباً واحداً.
التفاوض هو وسيلتنا لإدارة أمور الحياة المختلفة، وهو براعة في الاتصال وربما في التواصل أيضاً، فهو -أي التفاوض- الذي يجعل الموضوع برُمَّته مُهَيأً للنجاح أو الفشل؛ لذا فإن للتفاوض الناجح خُطُوات ناجحة علينا الإلمام بها كيْ نستطيع السير إلى الأمام، ومِن هذه الخُطُوات:
- الإعداد للتفاوض
الإعداد لأيّ موضوع يعني معرفة خفاياه، وسَبْر أغواره العميقة، وهذا ما ينطبق على التفاوض، فلا يمكن أن نتفاوض على موضوع لا نعرفه، ولا بُدّ أن نسأل: بماذا نبدأ؟
لا بُدّ أن نبدأ بالمعلومات الخاصّة بالأمر الذي سيجري التفاوض حوله؛ لأن للمعلومات الدقيقة أهمية خاصّة، حيث تمكِّن المفاوِض من وضع الخُطّة الملائمة، والبدائل المناسبة، ومساحة التنازل الممكنة، وأهم هذه الأشياء: إمكانية التحكم في مسار العملية التفاوضية، فالموقف التفاوضيّ بأكمله مبنيّ على هذه الأوراق التي قد تكون معلومات يمكن الحصول عليها بسهولة، أو قد تكون صعبة تتطلب حتى معلومات استخباراتية.
ربما يسأل سائل: وما هي المعلومات التي يجب علينا الحصول عليها؟
لا شكّ أن جميع المعلومات مهمّة لكن من حيث المبدأ علينا أن نكون على دراية تامّة بالموضوع الذي سيتم التفاوض حوله، أيْ يجب ألا تكون معلوماتنا ناقصة حول هذا الأمر، وبعد أن تنجلي صورة الموضوع ننتقل إلى معرفة الأطراف التي سنتفاوض معها، ومدى حماسة هذه الأطراف للعملية التفاوضية، بعدها ننتقل إلى عناصر التفاوض، فتلك العناصر منها ما هو ثابت ومنها ما يمكن المساومة عليه.
هذه المعلومات مهمّة لأنها تجعل الصورة واضحة، وعندما يتم الانتقال إلى طاولة التفاوض لا نُفاجَأ بمعطيات ليس لدينا فكرة عنها، وكيْ لا نقع في مآزق لم نأخذها في الحسبان أيضاً.
يقول جون فولر في كتابه دليل المفاوِض: "الوقت الذي تخصِّصه لإعداد هدفك من التفاوض سوف يعود عليك بالكثير من الفوائد حين تجلس إلى مائدة المفاوَضات؛ لذا لا بُدّ من التخطيط بشكل جيِّد للموضوع بوضع أهداف واضحة مَرِنة واقعية".
وإذا كان ثمّة نماذج ناجحة تشبه العملية المتفاوَض عليها فلا بُدّ من الاستئناس بها والاستفادة منها، أيْ إنّ عملية القياس مهمّة أيضاً من أجل النجاح.
- الخُطّة التفاوضية
ليس بالضرورة أن يكون التفاوض مبنياً على خصومة وعداء، بل قد يكون هناك مصلحة مشتركة لجميع الأطراف، لكن لكل طَرَف وجهة نظره، والمفاوِض الماهر هو الذي يفرض وجهة نظره بشكل غير مباشر، ونشير هنا إلى أن لكل تفاوض هدفاً معيناً، والأهداف تحتاج إلى وضع برامج وخُطَط مدروسة لتحقيقها؛ لذلك علينا ألا نهمل مبدأ النسبية في النجاح والخسارة، فليس النجاح إمّا أن نحصل على الصفقة كما نريدها وإلا لا، ولكنَّ النجاح أن نتوصَّل إلى حَلّ مُرْضٍ، وقد يكون مُرْضياً للجميع عندما يكون وَسَطياً.
مع البَدْء بالتخطيط لعملية التفاوض حول موضوع تجاريّ، أو صفقة ما، أو غير ذلك لا بُدّ من
وضع "استراتيجية وتكتيك"، وضِمْن هذه الاستراتيجية تدور العموميات، ومع التكتيك تكون الخُطُوات، فبعد حصولنا على المعلومات والبدء بالتخطيط، لا بُدّ من وضع رؤية وتصور شامل حول الموضوع بأكمله، فالتخطيط هو الكفيل بإيجاد الحلول، والتخطيط هنا لا يعني الحلم بالصفقة كاملة دون النظر إلى الأمور الممكنة، وغير الممكنة، بل هو عملية مستمرة حيث يتم تغيير الخُطّة إذا ما وُجِد بديلٌ أفضلُ بعد التشاور مع الفريق حول الهدف الأعلى، والبدائل وكل أمر آخَر تقتضيه ضرورة النجاح.
لو أردنا تبسيط الأمور أكثر فإننا نرى بأن التفاوض قد لا يكون بين فريقيْن فقط في بعض الأحيان، فهناك أطراف أخرى لها مصلحة فيه وقد لا تظهر للعِيان، نرى هذا يومياً في عالم السياسة، حيث تكون تلك الأطراف على شكل "لوبي" أو ما يُدعَى "جماعات ضاغطة" ومن الممكن وجودها في الصفقات الاقتصادية أو غيرها، من هنا يجب على فريق التفاوض أن يأخذ هذه الجماعات بالحسبان، لأن هذه الفئات قد لا تكون ظاهرة في المشهد العامّ لكنها مؤثِّرة حتى في التفاصيل.
إذا ما كانت خُطّة فريق التفاوض محكمة، فمن المؤكَّد أن النتائج تكون بمستوى الطموحات، ويُكلَّل العمل بالنجاح، وحول هذا الموضوع تقول الدكتورة جوديت فيشر في كتابها (إدارة الاختلاف): "إن عملية التفاوض تبدأ بالتوتر والقلق بشأن المصالح والقضايا غيرَ أنّ المفاوَضات الناجحة تنتهي إلى حلّ مقبول".
- المفاوِض أو الفريق المفاوِض
المفاوِض هو الذي يستطيع إنجاح العملية التفاوضية، فالشخص المفاوِض، أو الفريق المفاوِض لا بُدّ أن يتمتع بمزايا محددة في الشكل، والمضمون أيضاً، حيث إن المفاوِض لا بُدّ أن:
- يتمتع بحضور شخصيّ، أيْ إن وجوده في المكان يبعث على الراحة النفسية لدى الطَّرَف الآخَر بهندامه، أو لُغَة جسده، أو أشياء أخرى تُعطي شخصه جاذبية الحضور.
- يتمتع بصفات الدبلوماسيّ، قليل الكلام كيْ لا يزلَ لسانه بأمر مهمّ لا يرغب في البوح به، يبدو عليه الرقة واللين ظاهراً، لكنه يستطيع حسم الأمور عند الضرورة.
- يكون لديه العلم والمعرفة والتخصص، فإذا كان مجال التفاوض تجارياً مثلاً لا بُدّ أن يكون لديه إلمام كامل بالتجارة وقوانينها أو على الأقل بالموضوع الذي سيتم التفاوض حوله.
- يتميز بمتانة الأعصاب وهدوئها دون أن يخضع للاستفزاز بحيث تكون ردود أفعاله محسوبة بما يخدم الموضوع التفاوضيّ، كما يستطيع التفاوض بالحُجّة المقْنِعة ويظهرها في التوقيت المناسب.
أمّا إذا كان الموضوع يتعلق بفريق تفاوض فلا بُدّ أن يكون لهذا الفريق قائد، وأن يَعْرف كل شخص في الفريق دوره بشكل جيد بحيث لا يجري خلاف في الرأْي عند التفاوض إلا بشكل مقصود وفي مصلحة الصفقة.
بقي علينا ألا ننسى أن أهم شيء للنجاح هو محبة العمل الذي نقوم به؛ لذا علينا اختيار المفاوِض المحُبّ لعمله، والذي يكون متحمساً أكثر من غيره لهذا العمل، فمحبة العمل شرط أساسي للنجاح.
- الخُطُوات
1. الخُطْوة الأولى
عندما ننتهي من إعداد فريق التفاوض لا بُدّ من التسريع في الإجراءات الشكلية، فعلينا أن نعرف مكان وزمان التفاوض لما لهذيْن الأمريْن من أهمية كبيرة وبقدر ما نكون مسيطرين على عاملي الزمان والمكان بقدر ما تكون بدايتنا ناجحة.
2. الخُطْوة الثانية
هي تحضير الوثائق والمستندات التي تدعمنا خلال عملية التفاوض، لأن الهدف مِن كل العملية التفاوضية هو الوصول إلى صيغة ما للاتفاق النهائيّ ثم توقيعه.
3. الخطوة الثالثة
بعد كل هذه الأمور المهمّة نصل إلى نقطة البدء في التفاوض وهي نقطة النهاية أيضاً؛ لأن المقَدِّمات الصحيحة تعطي نتائج صحيحة، فقد تنتهي عملية التفاوض بالنجاح ساعة البدء، مع هذا يجب السير في التفاوض التجاريّ أو الإداريّ على خُطَا التفاوض السياسيّ، فكما لا توجد عداوات دائمة في السياسة كذلك لا صداقات دائمة؛ لذلك علينا عدم الاستهانة بالآخَر، ونحن هنا لن نسميه خَصماً كما جرت العادة لأن في الخصومة تناقض مصالح، وفي التفاوض قد يكون هناك مصالح مشتركة.
من أهم ركائز النجاح في التفاوض عدمُ إفشاء الأسرار، والتروِّي عند اتخاذ القرارات، ولا بُدّ من معرفة لُغَة العصر أيضاً وهي السعْي وراء إشباع الحاجات النفسية للآخَر؛ لأن إدراك الحاجة النفسية واللعب عليها هو عامل مهمّ أيضاً، لكن لا بُدّ لكل شيء من نهاية ويجب أن تنتهي من عملية التفاوض في زمن مقبول، فإمّا أنْ تصل المفاوضات إلى ختامها فتنتهي عندما يشعر الطَّرَفان بأنها لم تَعُدْ مجدية، أو يشعر أنها استنزفت الجهد والوقت دون جدوى، أو عند إتمام الصفقة، وفي أيّ مرحلة وصلت إليها المفاوضات يجب عدم الخوف من الاعتذار عن الصفقة إذا كان ذلك الاعتذار في مصلحة العمل.
يمكننا القول في الختام بأن التفاوض هو عملية متكاملة، وهي كالأفكار التي تنتاب الشخص الذي يخترع اختراعاً، أو الشاعر الذي يؤلِّف قصيدة، أو الفنان الذي يرسُم لوحة، وكل هؤلاء لا بُدّ أن يمر تفكيرهم بمراحل حتى يخرج إبداعهم إلى النور، وهذه المراحل غير مُرَتّبة إلا في ذهن من يقوم بالعمل، تراكمت، ثم أتت لحظة الإبداع فحوَّل الفكرة إلى جمال، لكن لو حللنا الموضوع لوجدنا أن الفكرة ليست بنت اللحظة، بل نتيجة تراكمات معينة، وكذلك التفاوض قد لا نستطيع أن نقول هذه الخطوة تحتاج لأيام وتلك لساعات بل هي عملية كلية يمكن تحليل مراحلها المتتالية، ومع هذا لا بُدّ لنا أن نتحدث عن عنصر مهم في العملية هو عنصر ثقافة المفاوِض وتفهُّمه لثقافة الشخص الآخَر، لأن الخلفية الثقافية تحدِّد المفاتيح التي يمكننا الدخول بواسطتها، فالثقافة العربية مختلفة عن الإنكليزية أو اليابانية؛ لذا نعوِّل على الشخص المنفتح ثقافياً لأنه يمكنه أن يتفهَّم الآخَر وينجح من خلال إيصال رسالته بشكل أسهل
المصدر ـ مجلة الأفكار الذكية